الأحد، 3 مارس 2013

سيكولوجية الفرجة وقنوات السلطة




عبدالواحد الفقيهي
تعرف رياضة كرة القدم اليوم منعرجات تنتمي إلى الفضاء السياسي والاقتصادي / التجاري والإعلامي / الإشهاري …..ذلك أن هذه الرياضة لم تعد فقط لعبة خاصة وبريئة بل غدت تشكل خط وصل أو مسلكا رابطا بين الشخص المتفرج ومؤسسات تنتمي إلى مجال السلطة
بمعناها الواسع ، ومن هنا فهدفنا هو ضبط هذه العلاقة الخفية / الواضحة بين سيكولوجية المتفرج وقنوات السلطة .
   لنسجل هنا أن المقصود بالمتفرج ذلك الشخص الجالس أمام جهاز تلفزي أو في مقعد بمدرج الملعب وهو يلاحق ويتتبع باهتمام وانفعال وترقب وقائع ومجريات واحتمالات كروية .
   ولنسلم أيضا – مع رأي سائد – إن الهدف الأساسي للمتفرج هو تحقيق نوع من المتعة مصدرها إحساس بصري أساسا ، وموضوعها هو الكيفية أو الشكل الذي تجري به المباراة ، أما تجلياتها فهي الأحكام التي يطلقها المتفرج أثناء وبعد المباراة ( جيدة – جميلة – رائعة – رديئة – هزيلة – دون المستوى …) وذلك بالاستناد إلى " معايير " يقوم حولها اختلاف : ارتفاع حدة الصراع بين الفريقين المتباريين من أجل التسجيل  - التناسق والانسجام بين عناصر الفريق الواحد نتيجة للأدوار المتكاملة لأفراد المجموعة ككل – براعة ومهارة بعض اللاعبين في إنجاز بعض العمليات والتقنيات الفنية التي تكون موضوع إعجاب – تسجيل الأهداف – تسيير المباراة من طرف الحكم ….إلخ.  ونظرا لاختلاف وتعدد وعمومية هذه المعايير يمكن القول بأنها لا تتميز بموضوعية مطلقة ، وهذا الطابع الذاتي للأحكام هو الذي حدد طبيعة الشعور بالمتعة أو الانزعاج ، أي باللذة أو بالألم .
   لكن ما مدى صحة هذه المسلمة ؟ بعبارة أخرى ، هل يقف الأمر عند هذا الحد ؟ أي : هل يهدف المتفرج فقط إلى تحقيق نوع من المتعة أثناء مشاهدته لمباراة معينة ، كما يشاهد مثلا فيلما أو مسرحية أو رقصة أو لوحة فنية ؟ .
   مع طرح هذه التساؤلات نشرع في ملامسة حدود المسلمة السابقة ، إذ يبدو أن الأمر في كرة القدم يختلف أشد الاختلاف ، ففي هذه اللعبة يذوب ويتلاشى شعور المتعة أمام مشاعر الهيجان والتعصب والتشنجات الحسية والترقب القلق ومشاعر الإحباط والغضب المتمثل في عبارات السب والشتم والتحسر الشديد على ضياع فرص من طرف أعضاء الفريق ، والتخوف من هزيمة  الفريق المنحاز إليه أو الفرح الشديد إلى درجة الهوس بانتصاره …
   هذه العمليات النفسية تجعلنا أمام واقع يتجاوز البعد المتعي الذاتي الخاص إلى بعد جماعي انفعالي عام ، وهذا ما يدفع إلى القول أن المتفرج كفرد داخل الوسط الطبيعي لموضوع الفرجة
 ( أي الملعب ) يفقد ذاتيته الحميمية وتتلاشى فرديته الداخلية واستقلاليته الخاصة ليذوب في الجماعة وينسحق داخلها، يصبح وعيه تابعا ل " الوعي الجمعي " بلغة دوركايم ، أو تغدو سيكولوجيته جزءا غارقا في « سيكولوجية الحشود» بتعبير كوستاف لو بون ، فداخل الملعب لا يمكن أن يتحقق الإعجاب والرفض والاستنكار والفرح إلا بشكل جماعي وبكيفية قوية وعنيفة .
   إن تلك المظاهر هي عبارة عن عمليات نفسية يقوم بها الفرد داخل الجماعة تفريغا وتنسيقا لشحنات من طاقة مكبوتة ، لم تعط لها الفرصة للتعبير في وضعيات أو فضاءات أخرى ! إما لانعدامها لوجود رقابات خارجية قامعة أو لوجود رقيب داخلي يلازمه عنف تفجيرها ، وهذا التفجير لا يتم إلا عبر قنوات تسمح بها السلطة ، سلطة المجتمع والقانون والمؤسسات والشرطة …..بعبارة أخرى إن السلطة بخلقها مجموعة من الآليات والمنافذ لا توجه تلك الطاقة إلا من أجل أهداف معينة ، ذلك ما يجعلنا نطرح هذا السؤال المقارن : لماذا هذا الاهتمام الجنوني من طرف الإعلام التلفزي للسلطة بالبرامج الرياضية التي تأخذ فيها كرة القدم حصة الأسد بامتياز؟ ولماذا هذا التهميش شبه المطلق للبرامج الثقافية والعلمية والترفيهية الجادة ؟ سؤال مشروع وله ما يبرره ، ذلك أن كرة القدم كرياضة شعبية كما أطلق عليها أصبحت تستقطب ملايين الأفراد والأسر، وتجاوز الاهتمام  بها  حدود الملعب وحدود الجلسات أمام الشاشة الصغيرة لتكون موضوع الساعة في كل ساعة ، وفي كل مكان : داخل البيت ، في الشارع ، داخل المدرسة والإدارة ، في المقاهي وحتى الحمامات ….وعلى المستوى الرسمي أصبحت تخصص لها ميزانيات هائلة كما غذت تقنية الأجساد تباع وتشترى بالملايين والملايير داخل سوق المزاد العلني ( الفريق الذي يدفع أكثر هو الذي يملك اللاعب الأمهر ) .
   وعلى المستوى الإشهاري وظفت جنبات الملاعب لعرض أسماء البضائع والمؤسسات كما خطت على قمصان اللاعبين ، بل وكذلك وظفت شهرة ونجومية بعض اللاعبين من طرف شركات ومؤسسات الإشهار سلعها وخدماتها …وعلى المستوى الإعلامي أصبحت الصحف اليومية تخصص في كل عدد صفحة أو صفحتين خاصتين بالرياضة يكون حيزها الأكبر مخصصا لكرة القدم في حين أن جوانب أخرى ( كالسينما –و المسرح - و الفن – والتربية – والعلوم….) تخصص لها على الأكثر صفحة كل أسبوع …..
   نحن إذن أمام ظاهرة لها عدة أبعاد ويمكن أن تعالج من عدة زوايا ومستويات ، لكنها مع ذلك ظاهرة قلما يلتفت إليها من الناحية المعرفية ، أي كموضوع للبحث والدراسة العلميين ، وذلك لسبب نراه معقولا ، فالاهتمام المحموم بها من طرف الجمهور والإعلام والمسار الذي اتخذته حين أصبحت رياضة ملوثة بعناصر غريبة عنها وتتدخل فيها أطراف تنتمي إلى فضاءات أخرى ـ وهو تدخل يأخذ عدة مستويات ـ كل ذلك جعلها موضوعا غير قابل للعقلنة ، في هذه اللحظة على الأقل ، هل نقول إذن أن كرة القدم بالشكل الذي هي عليه الآن أصبحت ظاهرة باثولوجية ؟ موجة كموجات أخرى لكنها غير عابرة ؟ عدوى أممية أصابت كل البشرية بشكل جعلها غير قابلة للعلاج ؟ ظاهر تميز إنسان الحداثة ومابعد الحداثة ؟ معبود يملأ الفراغ العقلي والروحي فبدأ كل واحد يسعى إلى تقديسه ؟ ربما …

هناك تعليق واحد: