الخميس، 28 فبراير 2013

الجسد والنظرية الاجتماعية




الجسد والنظرية الاجتماعية(  كرس شلنج ترجمة: منى البحر   ـ    نجيب الحصادي)
1. مقدمة :صمم هذا العمل ليشكل إسهاما نظريا في مجال سوسيولوجيا الجسد الذي يشهد نموا متسارعا. سوف أتقصى فيما يلي منزلة الجسد المتغيرة في علم الاجتماع؛ أصف وأقوّم المنظورات الأساسية التي ركنت إليها الدراسات السوسيولوجية في الجسد؛ وأطرح تحليلي الخاص
لأفضل سبل مفهمة العلاقة بين الجسد، والهوية الذاتية والموت في الحقبة المعاصرة التي وصفها آنتوني جيدنز بالحداثة "المتأخرة" أو "العالية". مفاد محاجتي هنا هو أنه في ظروف الحداثة العالية يصبح الجسد تدريجيا محورا مركزيا في فهم الشخص الحداثي للهوية الذاتية. في هذا السياق، يحصل إمكان الموت على أهمية نادرا ما تم الاعتراف بها أو تقصيها في علم الاجتماع، رغم مركزيتها لفهمنا المعاصر. يعرض الفصل الأول توطئة مختصرة لهذه القضايا، ويجعل القارئ على ألفة ببعض المحاور الرئيسة التي تشكل هذه الدراسة.
        تنامى قدر الاهتمام الأكاديمي بالجسد في السنوات الأخيرة، حيث برز علم اجتماع الجسد بوصفه مجالا متميزا للدراسة، وصدرت مجلة جديدة عام 1995 تسمى Body & Society، بل إنه اقترح وجوب أن يوظف الجسد بوصفه مبدأ منظما لعلم الاجتماع. في ضوء هذا الهدف، استحدث براين ترنر مصطلح "المجتمع الجسدي" ليصف كيف أن الجسد في الأنظمة الاجتماعية الحديثة قد أصبح "المجال الرئيس للنشاط السياسي والاجتماعي" (Turner, 1992a: 12, 162).
        طرأ أيضا تصاعد مكثف على اهتمام الجمهور بالجسد. هكذا نجد أن الصحف والمجلات والتلفزيون تعج بمواد عن صورة الجسد، والجراحة التجميلية وكيفية جعل الجسد يبدو فتيا، مثيرا، وجميلا، في حين بلغت ميزانية صناعة إنقاص الوزن والحفاظ على الرشاقة تعد ملايين الدولارات. في المملكة المتحدة وحدها، تقدر قيمة تجارة اللياقة البدنية والنوادي الصحية بمليار دولار سنويا[1]. من المهم أيضا أن نلحظ أن الاهتمام بالجسد ليس أمرا جديدا. مثال ذلك أنه في أزمنة الحرب دأبت الحكومات على العناية بصحة مواطنيها ولياقتهم الجسدية. على ذلك، فإن وضع الجسد ضمن الثقافة الجماهيرية المعاصرة إنما يعكس فردانية غير مسبوقة للجسد. لقد أصبح عدد يتزايد من الناس أكثر اهتماما بصحة وشكل ومظهر أجسادهم بوصفها تعبيرا عن هوياتهم الفردية. وكما يلحظ بيير بورديو (Bourdieu, 1984)، فإن هذه الظاهرة تتضح بشكل خاص عند الطبقات الوسطى "الجديدة". غير أنها تجاوزت في السنوات الأخيرة هذه الحدود الضيقة.
الجسد في عصر الحداثة العالية
محتم على أية محاولة جادة لفهم هذا الاهتمام المتصاعد بالجسد أن تتواءم مع الظروف التي شكلت سياق هذا التيار. في هذا الخصوص، من المفيد أن نذكر بعض التطورات التي صاحبت ظهور الحداثة، وهي ظروف تغيرت بشكل متطرف في الحقبة المعاصرة من الحداثة العالية.
تشير الحداثة بوجه عام إلى أنماط ونظم الحياة الاجتماعية التي ظهرت في أوربا ما بعد الإقطاع، والتي تصاعد تأثيرها على مستوى العالم في القرن العشرين. يمكن على وجه التقريب فهم الحداثة على أنها "العالم الصناعي"، رغم أنها تتكون من أبعاد مؤسساتية متعددة تحوز كل منها مساراتها الخاصة (Giddens, 1990; Hall and Gieben, 1992) . من ضمن آثار الحداثة الكثيرة إسهامها في ارتفاع درجة تحكم الدول بوجه عام، والمهن الطبيبة بوجه خاص، في أجساد المواطنين. أيضا، أفضت الحداثة إلى التقليل من نفوذ السلطات الدينية في تعريف ماهية الجسد وتقنينه (Turner, 1982). الحال أن لعلاقة الحداثة بالدين تأثيرات مهمة على اهتمامنا المعاصر بالجسد.
        بينما أسهم عهد الحداثة تدريجيا في سلب قداسة الحياة الاجتماعية، فيما جادل منظرو الحداثة منذ زمن مديد، فإنه فشل في الاستعاضة عن اليقينيات الدينية بيقينيات علمية من الطراز نفسه. ربما مكننا العلم من إحكام سيطرتنا على شؤون الحياة (رغم أنه أخفق بشكل حاسم  في هزيمة الموت)، لكنه فشل في طرح قيم توجه حياتنا (Weber, 1984 [1919]). عوضا عن ذلك، ثمة خوصصة متنامية لمعنى الحداثة، ما جعل عددا يتزايد من الأفراد يواجهون بمفردهم مهمة تأسيس قيمهم والحفاظ عليها بغية إهابة معنى لحياتهم اليومية.
            استخدم آنتوني جيدنز تعبير "الحداثة العالية" لوصف التغييرات المتطرفة التي طرأت على التيارات الحديثة في القرن الفائت. في مواجهة نظريات ما بعد_حداثية بعينها، يقترح جيدنز أنه لا الحداثة ولا الذات تشكل اهتمامات سوسيولوجية آناركية (فوضوية). تظل الاهتمامات الحداثية تشكل الحياة الاجتماعية، رغم أن مترتبات هذه الاهتمامات لم تتضح بشكل كامل إلا الآن. في ضوء تفسخ أطر دينية صورية شكلت وعززت في الغرب يقينيات وجودية وأنطولوجية تقبع خارج الفرد، وبحسبان حضور الجسد المكثف في ثقافة المستهلك بوصفه حاملا لقيمة رمزية،  ثمة نزوع عند الناس في حقبة الحداثة العالية نحو إهابة قدر أكبر من الأهمية للجسد أداة لتشكيل الذات. عند من فقد إيمانه بالسلطات الدينية والسرديات السياسية الكبرى، ولم تعد بنى المعنى المتجاوزة للشخص توفر له رؤية واضحة للعالم أو الهوية الذاتية، بدا أن الجسد يوفر أساسا صلبا لإعادة بناء معنى للعالم الحديث جدير بالثقة. الراهن أنه يمكن اعتبار السبل الطاعنة في تأمل الذات، التي يرتبط عبرها البشر بأجسادهم، إحدى علامات الحداثة العالية الفارقة. فضلا عن ذلك، فإن مناطق الجسد البرانية، أو سطوحه، هي التي ترمز إلى الذات في وقت يحظى الجسد الفتي، النحيل، والمثير جنسيا بقيمة غير مسبوقة.
الجسد الملتبس
 ليس في وسع هذه الملاحظات الاستهلالية سوى أن تحدد معالم عامة للسياق الذي ظهر فيه الجسد بوصفه قضية اجتماعية وأكاديمية أساسية في الحقبة المعاصرة. على ذلك، فإنه من ضمن كل العوامل التي أسهمت في جعل الجسد كيانا مرئيا، يحظى تطوران يبدوان متناقضين بأهمية خاصة. لدينا الآن السبل التي تمكن بدرجة غير مسبوقة من التحكم في أجسادنا؛ غير أننا نعيش في عصر ألقى بضلال شكوك قوية على درايتنا بماهية الأجساد وكيفية التحكم فيها.
        نتيجة للتطورات التي طرأت في مجالات تختلف باختلاف التناسل البيولوجي، والهندسة الوراثية، والجراحة التجميلية وعلوم الرياضة، أصبح الجسد تدريجيا ظاهرة بدائل واختيارات. لقد أسهمت هذه التطورات في تنمية قدرات يمتلكها كثيرون منا على التحكم في أجسادهم، وفي جعلهم عرضة لتحكم آخرين. هذا لا يعني أننا سوف نمتلك الموارد أو قدر الاهتمام الذي يمكّننا من إعادة بناء جذرية لأجسادنا. الحال أن السبل التي يروم الناس التحكم عبرها في أجسادهم تتخذ عادة أشكالا تقليدية، من قبيل الحمية والحفاظ على اللياقة البدنية. فضلا عن ذلك، من المرجح أن يكون الاهتمام بالجسد الذي يبديه مديرو الأعمال مختلفا كلية عن ذلك الذي يبديه المشردون الذين لا مأوى لديهم يقرون عنده. على ذلك، فإننا نعيش في عصر إعلامي تشيع فيه المعرفة بمثل هذه التطورات، ومن المرجح أن الحرمان الذاتي الذي يعانيه من تعوزهم الموارد التي تمكن من التحكم في أجسادهم والعناية بها سوف يتفاقم بامتلاكهم تلك المعرفة. ببساطة، لم يعد الجسد يخضع للقيود التي شكلت في عهد غبر خصائصه. غير أن هذا الوضع لم يقتصر على تمكين النساء من التحكم في  أجسادهن، بل أثار في نفوس الأفراد درجة عالية من التأمل في ماهية الجسد، قدر ما أثار شكوكا حول كيفية التحكم فيه. بقدر ما يسهّل العلم درجة التدخل في الجسد، بقدر ما يزعزع ثقتنا فيما نعرف عنه، ويتجاوز قدرتنا على إصدار أحكام أخلاقية حول المدى الذي يتوجب عنده السماح للعلم بإعادة تشكيله.
        الحال أننا لا نمعن في التبسيط حين نجادل أنه بزيادة درجة تحكمنا وقدرتنا على تغيير حدود الجسد، ترتفع حدة شكوكنا حول ماهية الجسد، وما هو "طبيعي" بخصوصه. مثال ذلك، مكّن التخصيب الصناعي وتخصيب الصماء من فك الارتباط بين العلاقات الجسدية التي حددت تقليديا خبرة الجنسية الغيرية. الذعر الأخلاقي الذي أثارته "الولادة العذرية" في بريطانيا إنما يوضح التهديد الذي تشكله هذه التطورات لما يعد عند الناس طبيعيا نسبة للجسد. وكما تقر إحدى صحف التابلويد البريطانية الشهيرة، Daily Mail، "في مشروع يصيب صميم الحياة الأسرية، يغدو إنجاب الأطفال بمقدور نساء لم تسبق لهن ممارسة الجنس" (Golden and Hope, 1991).
        التطورات التي شهدتها مجالات من قبيل جراحة نقل الأعضاء والواقع الافتراضي إنما تضاعف من حدة هذه الشكوك التي تساورنا حول الجسد، كونها تهدد بتقويض الحدود التي وجدت تقليديا بين الأجساد وبين التنقية والجسد (Bell and Kennedy, 2000). إن لهذا الأمر مترتبات واقعية. فكما يلحظ ترنر، في مجتمع المستقبل، حيث تشيع وتتطور علميات زرع الأعضاء ونقلها، "تصبح الأحاجي الافتراضية التي كانت تشغل الفلاسفة التقليديين حول الهويات والأجزاء مسائل تحظى بأهمية قانونية وسياسية عظيمة. هل يمكن أن أكون مسؤولا عن أفعال جسد لا يعد بشكل أساسي جسدي؟" (Turner, 1992a: 37). أيضا، تعد تلك التطورات بزيادة حدة مآزق تكتنف ملكية الأجساد سبقت إثارتها فيما يتعلق بقضايا من قبيل الإجهاض والأم البديل (Diprose, 1994).
المشاريع الجسدية
في زمن الشك هذا، تتخذ الدراية بماهية الأجساد تدريجيا صيغة فروض: "مزاعم قد تكون صحيحة، لكنها قابلة دائما من حيث المبدأ للتعديل، وقد نتخلى عنها كلية في وقت ما" (Giddens, 1991: 3). يؤثر هذا الموقف في مفهوم الفرد الحداثي للهوية الذاتية ـ مفهومه للذات كما تفهم بطريقة تأملية عبر سيرة جسده الذاتية. في الغرب الغني، يعتبر الجسد تدريجيا كيانا في حال صيرورة؛ مشروعا يتوجب العمل عليه وإنجازه بوصفه جزءا من هوية الفرد الذاتية. بمقدورنا إرجاع بداية محاولات الفرد تشكيل جسده وقولبته إلى المسيحية المبكرة، بل حتى العهود القديمة  (Brown, 1988; Foucault, 1988). بيد أن المشاريع الجسدية تختلف عما كان يحدث في المجتمعات التقليدية من زخرفة للجسد البشري والنقش عليه وتغييره، كونها تشتمل على تصور ينأى عن النماذج التقليدية لأجساد مقبولة اجتماعيا تم تشكيلها عبر طقوس احتفالية جماعية (Rudofsky, 1986 [1971]). تظل المشاريع الجسدية تختلف وفق جوانب اجتماعية بعينها، خصوصا في حالة الجندر [النوع من حيث الذكورة والأنوثة]؛ غير أن سبل تطوير النساء والرجال أجسادهم تعددت في السنين الأخيرة.
        عند كثيرين من الحداثيين، تستلزم ملاحظة أن الجسد أصبح مشروعا قبول أن مظهر الجسد، وحجمه وشكله، وحتى محتواه، قابلة لإعادة البناء وفق تصميمات صاحبه. معاملة الجسد على أنه مشروع لا يستلزم ضرورة انشغالا مستديما بتغييره كلية، رغم أنه بإمكانها أن تقوم بذلك. على ذلك، فإنها تستلزم أن يكون الفرد واعيا ومهتما بشكل فعال بترويض وبمظهر جسده والحفاظ عليه. يتضمن هذا اعترافا عمليا بأهمية الجسد، بوصفه موردا شخصيا ورمزا اجتماعيا يبعث برسائل عن هوية الشخص الذاتية. في هذا السياق، يصبح الجسد كينونة طيعة يمكن تشكيلها وشحذها عبر ما يبدي صاحبه من حرص وما يبذل من جهود.
        ربما نعثر على أفضل أمثلة على الجسد بوصفه مشروعا في القدر غير المسبوق من الاهتمام الذي حظي به التشكيل الشخصي لأجساد معافاة (Schlling, 2002a). في وقت تزداد حدة تعرض صحتنا لمخاطره عولمية، نحض [بضم النون] على الاضطلاع بمسؤولية فردية تجاه أجسادنا عبر اتباع حميات رعاية_ذاتية صارمة. هكذا يتم عرض أمراض القلب، والسرطان وطائفة من أمراض أخرى بشكل متصاعد على أنها أشياء يمكن للفرد تجنبها عبر تناول الأطعمة الصحيحة، الإقلاع عن التدخين وممارسة قدر كاف من الرياضة. أيضا، تتطلب حمية الرعاية_الذاتية من الفرد تبني فكرة أن الجسد مشروع يمكن مراقبة بواطنه وظواهره، كما يمكن تغذيته والحفاظ عليه، بحيث يؤدي وظائفه كاملة، فيما تكرس مثل هذه الحميات مفهوما للجسد يرى فيه جزيرة أمان في نظام عولمي تتهدده مخاطر جمة لا مناص منها (Beck, 1992).
        لا تقتصر وظيفة حميات الرعاية_الذاتية على حمايتنا من الأمراض، بل تروم أيضا جعلنا نسعد بكيف تبدو أجسادنا لنا وللآخرين. تدريجيا أصبحت الصحة أكثر ارتباطا بالمظهر وما اصطلح ارفنج جوفمان (Goffman, 1996) على تسميته "عرض الذات". لقد أسهم عدد لا حصر له من الكتيبات المساعدة للذات، توجيهات التجميل، ملاحق الحميات، وخطط التمرينات في تلبية تلك الاحتياجات، بينما تتنافس السلع الاستهلاكية على محاولة جعل أجساد الناس تبدو جديرة بالثقة وقادرة على إثارة متع حسية، وهي توفر برامج لتحسين البشرة وتقوية العضلات على نحو يجعلها تبعث برسائل عن الصحة عبر جعل المرء يبدو معافى وفتيا (Banner, 1983). الراهن أن تأثير هذا المشروع الجسدي بالذات ألزم حتى الذين يسرفون في التدخين وفي شرب الخمر وفي تعاطي مخدرات أخرى بالتفكر في آثار سلوكهم هذا على صحتهم ومظهر أجسادهم. في حقبة شيوع التوكيد السياسي على "مساعدة النفس" و"المسؤولية الشخصية"، والتوكيد الاجتماعي على "الجسد الجميل"، يغدو من تستهويه تلك العادات مثالا على الانحراف الأخلاقي الجديد. غير أن التأثير السائد لما ينعته روبرت كراوفورد (Crawford, 1987) بـ "الوعي الصحي الجديد" ليس السبيل الوحيد الذي أصبح الجسد عبره مشروعا يتم تشكيله وفق هوية المرء الذاتية.
        مكنت الجراحة التجميلية عددا صغيرا، لكنه يتعاظم بسرعة، من الأفراد من إعادة تشكيل أكثر تطرفا ومباشرة لأجسادهم على نحو يتسق مع مفهومهم للفتوة، والأنوثة والرجولة. شد الوجه، شفط الدهون، تخصيص طبقات البطن، وعمليات تجميل الأنف والذقن، مجرد بنود في قائمة تطول للإجراءات والعمليات المتاحة للأغنياء الراغبين في إعادة تشكيل أجسادهم. منذ ستينيات القرن الفائت، أجريت في الولايات المتحدة أكثر من مليون عملية زرع أثداء على نساء رغبن في أجساد أكثر "أنوثة"، وثمة عدد متزايد من الرجال تأسى بهن بحثا عن مظهر أكثر فتوة. عمليات تضخيم القضيب متوفرة أيضا للراغبين في أجساد "رجولية أكثر اكتمالا" (Grant, 1992).
        تثير الجراحة التجميلية بشكل حاد وعلى نحو خاص مسألة ماهية الجسد، عبر تمكين المرء من إنقاص شحمه ولحمه وعظمه. في هذا الخصوص، تنشر على صفحات الصحف والمجلات مقالات عديدة تروي قصص عن أناس أصبحوا عبر إجراء عمليات متعددة ممسوسين بحمى تغيير مظهر أجسادهم وحدودها على نحو يتسق مع صورة مثالية للذات. ربما نعثر على أفضل الأمثلة التي حظيت بتغطية إعلامية في ملامح مغني البوب مايكل جكسون التي طرأت عليها تغييرات حاسمة.
        أما بالنسبة لغير الراغبين أو غير القادرين على  مواجهة مخاطر الجراحة، فثمة نشاط يزداد رواجه: كمال الأجسام؛ وهو نشاط كان فيما مضى قابعا على تخوم صناعة التمارين الرياضية المنحرفة جنسيا. كمال الأجسام مثال توضيحي جيد على الجسد بوصفه مشروعا، لأن نوعية وحتى مجرد حجم العضلات الناجمين عن تلك العملية يتحدى مفاهيم نقبلها بخصوص ما هو طبيعي نسبة لأجساد الذكور والإناث. في وقت تحل الآلات بشكل مطرد بديلا للعمل اليدوي الذي كان يقوم به الرجال في المصانع، وتواصل المرأة تحديها دور الزوجة والأم المحدود الذي يعده المجتمع لها، يبدو أن بناء وعرض أجساد ضخمة "بشكل غير طبيعي" أو محددة بدرجة عالية يمكّن الناس من الجهر بأحكام شخصية قوية تتعلق بماهياتهم (Fussell, 1991). وكما علقت امرأة في دراسة روزن لنساء يهتممن بكمال أجسامهن، "عندما أنظر في المرآة أرى شخصا يجد نفسه؛ شخصا قال مرة وإلى الأبد إن الدور الذي ألزمني المجتمع بالقيام به لم يعد مهما. بمقدوري أن أقوم بما أرغب في القيام به، وإنني لأشعر بالاعتزاز لقيامي به" (Rosen, 1983: 72).
        مشاريع الصحة والعمليات الجراحية وكمال الأجسام مجرد ثلاثة أمثلة على كيفية إيلاء الفرد الحداثي أهمية متزايدة لجسده. على ذلك، فإنها تبين الفرص والقيود المصاحبة لتوثيق عرى العلاقة بين الجسد والهوية الذاتية. يوفر مشروع استثمار الجسد للمرء وسيلة للتعبير عن النفس والشعور بالغبطة وزيادة درجة التحكم في جسده. إذا شعر المرء أنه عاجز عن إحداث تأثير في مجتمع تزداد درجة تركيبه، فإنه يستطيع على الأقل أن يحدث تأثيرا في حجم جسده وشكله ومظهره. قد يتم التحفظ بخصوص هذه الفرصة في غياب معيار حاسم لتحديد الكيفية التي يتوجب وفقها معاملة الجسد، أو حتى لتحديد ماهيته، غير أنه لا يبرر التغاضي عن مناقب قد ينتفع بها الناس بسبب ظهور الجسد بوصفها مشروعا في المجتمع الحديث.
        أيضا فإن لاستثمار الجسد حدوده. الحال أن الجهود التي يبذلها المرء على جسده مآلها أن تخفق، فالأجساد تشيخ وتتفسخ، وواقعية الموت المحقق تبدو مزعجة بشكل خاص لفرد الحداثي الذي تشغله هوية ذاتية مؤسسة على الجسد. وفي نهاية المطاف، أي شيء أكثر إيحاء يشي بحدود انشغالنا بجسد فتي لائق صحيا، مثالي الرجولة أو الأنوثة، من حقيقة مرة مفادها خصر متخثن، ولحم يترهل، وموت محقق؟
        ثمة قيود تفرض على الجسد ليس فقط بمعنى أنه مقضي عليه أن يقضي نحبه، بل أيضا بسبب مقاومته المستمرة لأن يشكل وفق مشيئتنا. سيوسي اورباخ (Orbach, 1988) وكم شرنن (Chernin, 1983) كاتبتان من ضمن عدة كتاب أشاروا إلى الصعوبات التي تواجهنا في تغيير شكل الجسد عبر الحميات. أيضا توضح املي مارتن (Martin, 1989 [1987]) كيف أن النساء غالبا ما يكتشفن أن أجسادهن قد غدت بطرق متعددة خارج نطاق السيطرة، فيما يستبان أن محاولات تغيير حجم وشكل الجسد محفوفة بالمخاطر (مثال ذلك، يشهد حشد متزايد من الأدلة على المخاطر المرتبطة بالعمليات الجراحية والحميات المتكررة). ثمة مشكلة أخرى تتعلق بانشغالنا التأملي بالجسد تتعين في آثار هذا الانشغال المحتملة على أبنائنا. يقلق المرء على شكل جسده ووزنه حين يكون في مقتبل العمر، وهناك أبحاث تفيد بأن عددا كبيرا من الفتيات والفتيان تصل أعمارهم التاسعة غير راضين عن أجسادهم (Hall, 1992). لا غرو إذن أن انشغالنا المعاصر بالجسد ارتبط بارتفاع مقلق في حدة الاضطرابات الهضمية (Gorden, 2001; Grogan, 1999).
        بهذا المعنى يضع الجسد القيود بقدر ما يوفر التسهيلات إبان حياته وليس فقط لأنه يموت. على ذلك، تسري إشارة زجمنت برومان  إلى علاقة الجسد بالموت بوجه عام على انشغالنا بالجسد بوصفه مشروعا. وفق ما يجادل برومان، في حالة الموت وحميات الرعاية_الذاتية، الانشغال الحداثي بالجسد "محاولة لتخطي حدود الجسد النهائية عبر خلاص متتابع من قيوده الخاصة التي تتم مواجهاتها في الوقت الراهن" (Bauman, 1992a: 28). إن هذا التركيز البراجماتي محاولة لتأجيل مسائل وجودية تشغلنا تتعلق بقيد الجسد النهائي (الموت) و السبب الذي يلزم بجعل الجسد مهما للهوية الذاتية، كما تتعلق بماهية الجسد.
        ثمة قيد آخر يرتبط بظهور الجسد بوصفه مشروعا يتعين في إمكان تسخير الصور الفردية للجسد المرغوب فيه في إدامة إجحاف اجتماعي راهن. في هذا الخصوص، تبدو الطريقة التي أصبح بها الجسد مشروعا عند بعض النساء أقرب إلى أن تكون انعكاسا لتصميمات وتخيلات ذكورية منها لأن تكون تعبيرا عن الفردانية. مثال ذلك، قد نجادل بأن التمثيل وعرض الأزياء يشجع النساء على تغيير أجسادهن وفق تصور الذكور للجمال. وكما يلحظ روبرت جربر (Robert Gerber, 1992: 46)، "لقد أصبحت المرأة فاحشة الثراء التي أجريت لها علميات جراحة تجميلية نقطة مرجعية في الموضة".
علم الاجتماع والجسد
لهذه الأسباب، ولأسباب أخر سوف نتقصاها في الفصل الثاني، أصبح الجسد مسألة اجتماعية مهمة. غير أن الجسد لم يصبح مركزيا في الجدل النظري العام في أوربا وأستراليا إلا مؤخرا، بينما توجد درجة عالية من التردد في تناول هذا الموضوع في شمال أمريكا. تنزع التفسيرات المعاصرة "لوصول" الجسد المتأخر وغير المكتمل إلى عزوه إلى المقاربة اللاجسدية التي تبناها علم الاجتماع الكلاسيكي تقليديا في هذا المجال. يتبنى بريان ترنر ضمن آخرين هذا الموقف في كتابه Regulating Bodies  (Turner, 1992a). إن تأثر علم الاجتماع الشديد بالفكر الديكارتي حدا به إلى تبني موروث قديم في الفلسفة عبر قبول مثنوية العقل/الجسد والتركيز على العقل بوصفه مكمن تفرد الإنسان بحسبانه كائنا اجتماعيا.
        يحوزه هذا التفسير قدرا لا يستهان به من القيمة، وهو يصف بدقة كيف نزع قطاع كبير من علم الاجتماع إلى مقاربة علاقة الجسد بالعقل. غير أنه لا يفي حق مقاربات بعينها تبناها علم الاجتماع في تناوله الجسدية بوصفها موضوعا مستقلا. ثمة قصور مشابه تعاني منه الرؤية التي تقر أنه بالمقدور "استعادة" الجسد بسهولة عبر إعادة النظر في الكلاسيكيات (Williams and Bendelow, 1998). على أقل تقدير، ثمة حاجة إلى بذل جهود شاقة في التفصيل والتطوير قبل أن يتسنى لنا صياغة نظريات اجتماعية كلاسيكية شمولية في الجسد. في مقابل هاتين المقاربتين، أقترح أن تحري الدقة يلزمنا بوصف علم الاجتماع الكلاسيكي على أنه يعرض مقاربة مزدوجة للجسد. عوضا عن أن يكون قد أغفل نهائيا، كان الجسد الحاضر الغائب في علم الاجتماع. لقد كان الجسد غائبا عن علم الاجتماع الكلاسيكي بمعنى أن هذا الفرع المعرفي نادرا ما ركز بطريقة ثابتة على الجسد بوصفه مجالا مستقلا للبحث. مثال ذلك، نادرا ما تأخذ النظرية السوسيولوجية في حسبانها حقيقة أن لدينا أجسادا من لحم ودم تمكنا من تذوق وشم ولمس وتبادل سوائل جسدية (Connell and Dowsett, 1992). على ذلك، فإن انشغال علم الاجتماع الكلاسيكي ببنى ووظائف المجتمعات وطبيعة الفعل البشري حتمت عليه التعامل مع جوانب مهمة من الجسدية البشرية.
        بشكل متكرر، ظل اهتمام علم الاجتماع الكلاسيكي بالجسد ضمنيا بدلا من أن يكون صريحا. فضلا عن ذلك، نزع إلى التركيز على جوانب منتقاة من الجسدية البشرية. مثال ذلك، ركز علم الاجتماع على قضايا من قبيل اللغة والوعي دون ملاحظة أن هاتين القدرتين نفسيهما قدرات جسدية. وكما جادل نوربرت الياس (Elias, 1991) فإن قدراتنا المتعلقة باللغة والوعي متضمنة في أجسادنا وتشكل جزءا منها، كما أنها مقيدة بها. ثمة أمر آخر يتعلق بإغفال علم الاجتماع الكلاسيكي للجسد بوصفه جزءا مكملا للفاعل البشري. أجسادنا هي التي تمكننا من الفعل والتدخل في تيار الحياة اليومية وتغييره. الحال أنه لا سبيل للحصول على نظرية مناسبة في الفعل البشري لا تأخذ الجسد في اعتبارها. بمعنى غاية في الأهمية، الشخص الفاعل جسد فاعل.
        على ذلك، في حين لم يتعامل علم الاجتماع الكلاسيكي بطريقة ملائمة مع كل مترتبات الجسدية البشرية، فإن هذا لا يبرر الحكم بأن علم الاجتماع تبنى مقاربة لاجسدية كلية في تناول موضوعه. مثال ذلك، عني كارل ماركس (Marx, 1954 [1887]) بمسألة استيعاب الجسد في التقنية الرأسمالية. أيضا كتب جورج سيمل (Simmel, 1990 [1907]; 1950) عن الميول الجسدية التي تدفع الناس نحو بعضهم البعض، والعواطف الاجتماعية التي أسهمت في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية، كما تقصى آثار اقتصاد المال الضارة على تلك العواطف. أعمال ماكس فيبر (Weber, 1985 [1904-05]; 1948 [1915]) تبدي اهتماما بعقلنة الجسد، و"الملاجيء" التي يوفرها الفن والحب والشهوة الجنسية، فيما يعتبر إميل دوركايم (Durkheim, 1995 [1912]) الجسد مصدر وموضع تلك الظواهر الدينية التي أسهمت في تماسك الأفراد في كليات أخلاقيات. الواقع أن حضور الجسد الضمني في علم الاجتماع إنما توضحه حقيقة أن كثيرا من الأعمال الراهنة في الجسد استطاعت أن تركن بشكل منتج إلى تركة علم الاجتماع الكلاسيكي. أعمال بيير بورديو في الجسد، على سبيل المثال، إنما تطور انشغالا ماركسيا بالطبقة الاجتماعية والتكاثر الاجتماعي واهتمام دوركايمي بالوظائف الاجتماعية والمعرفية التي تقوم بها "التمثلات الجماعية" و"التصنيفات البدائية"، وتركيز فيبري على أساليب الحياة الخاصة ومفاهيم الشرف والعار التي تسهم في تحديد الرتب الاجتماعية (Brubaker, 1985; Shilling, 1992).
        يستبان أن دفع تهمة تبني مقاربة لاجسدية كلية عن علم الاجتماع الكلاسيكي لا تعني بحال التصديق على طريقته في تناول موضوعة الجسد. في هذا الخصوص، من المهم أن نذكر بعض منظّري علم الاجتماع الأحدث عهدا الذين حاولوا التغلب على المقاربة المزدوجة التي تبناها علم الاجتماع تقليديا. مثال ذلك أن ارفنج جوفمان وميشيل فوكو يضعان الجسد على التوالي في قطب رحى تحليلات "نظام التفاعل" والأنساق البينية.
        مارس هذان الكاتبان تأثيرا غاية في القوة على التحليلات المعاصرة للجسد كظاهرة مشكّلة اجتماعيا. ولكن، عوضا عن التغلب بشكل كامل على أوجه قصور علم الاجتماع الكلاسيكي، يمكن اعتبار أن كثيرا من أعمالهما إعادة انتاج في صورة مغايرة للمقاربة المزدوجة التي نزع علم الاجتماع إلى تبنيها في موضوعة الجسد. إن نظريات الرؤى البنائية في الجسد إنما تنحو شطر إخبارنا الكثير عن كيف غزا المجتمع وشكل وصنف الجسد وأعطاه أهمية، لكنها تخبرنا أقل من ذلك بكثير عن ماهية الجسد وعن سر اقتداره على الاستحواذ على مثل هذه الأهمية الاجتماعية. يعتبر الجسد فضاء نظريا، لكنه غالبا ما يتم التغاضي عنه بوصفه موضوعا واقعيا للتحليل. ربما يكون من الأدق أن نصف رؤى البنائية الاجتماعية الأكثر تطرفا في الجسد بأنها أعراض للانشغال الحداثي بالجسد، عوضا عن تكون تحليلات له.
        يتوجب أن يتضح من هذا أنني أعتقد أنه لم يتسن حتى الأن للمقاربات البنائية الاجتماعية طرح رؤى مرضية بشكل كامل في الجسد. لا تثريب على إقرار أن الجسد مشكّل اجتماعيا، لكن هذا لا يخبرنا الكثير عن خصائص الجسد العينية. ما الذي يتم بناءه على وجه الضبط؟ عوضا عن مواجهة هذا السؤال، وتمكنينا من فهم كيف تشكل القوى الاجتماعية ذواتنا المادية، تنزع البنائية إلى إخلاء الفاعل الجسدي من النظرية الاجتماعية. إنني أتفق في هذا الخصوص مع ترنر حين يجادل بأننا في حاجة إلى نظرية تأسيسانية في الجسد (Turner, 1992a). الشروع في إنجاز تحليل مناسب للجسد إنما يتطلب اعتباره ظاهرة مادية، فيزيقية وبيولوجية غير قابلة لأن تختزل إلى عمليات أو تصنيفات اجتماعية مباشرة. فضلا عن ذلك، حواسنا، ومعارفنا، وقدراتنا على الفعل إنما تتعلق بشكل تكاملي بحقيقة كوننا كائنات جسدية. قد تؤثر العلاقات الاجتماعية بشكل قوي في تطور أجسادنا في كل جانب تقريبا؛ من حيث الحجم والشكل ومن حيث الكيفية التي نسمع بها ونلمس ونشم ونفكر (Duroche, 1990; Elias, 1991)، لكنه لا سبيل للاستغناء ببساطة عن الجسد عبر هذه العلاقات. الأجساد البشرية تتغير نتيجة للعيش في مجتمع، لكنها تظل كيانات مادية، فيزيقية، وبيولوجية.
علم الاجتماع الجسدي
بعد أن تطرقت إلى بعض المحاور الرئيسة التي سوف أعنى بها في هذه الدراسة، سوف أقوم الآن بعرض مخطط للأهداف الخمسة الأساسية التي يتغياها هذا الكتاب، وبطرح وصف موجز لكل فصل من فصوله.
        أولا، وكما سبق أن نوهت في هذه المقدمة، أرغب في طرح تحليل متميز لوضع وطريقة تناول موضوعة الجسد في علم الاجتماع يجادل بأن الجسد كان تقليديا الحاضر الغائب في هذا الفرع المعرفي.
        ثانيا، سوف أنجز مهمة رئيسة تتعين في طرح رؤية شاملة وواضحة ونقدية لبعض المقاربات والنظريات الرئيسة المتعلقة بعلم اجتماع الجسد. خلافا لعدد من الكتب التي نشرت مؤخرا في موضوعة الجسد، أحجمت عن تنظيم فصول هذه الدراسة في شكل محاور. عوضا عن ذلك، رتبت فصول الكتاب قصدا بطريقة تعرض في كل فصل مقاربات مختلفة لموضوعة الجسد. يبدو لي أن هذه طريقة مفيدة في تنظيم وتقصي بعض الدراسات المتنوعة إلى حد كبير التي نشرت في السنوات الأخيرة والمتعلقة بعلم اجتماع الجسد. لم تعتبر هذه الدراسات دوما أعمال سوسيولوجية في الجسد، غير أنني أعرضها على هذا النحو وأروم شرح كيف أنها تشكل إسهامات مهمة في هذا المجال.
        في معرض تقويم تلك المقاربات، أعنى خصوصا بفحص ما تمكننا وما تخفق في تمكيننا من قوله عن الجسد في المجتمع. ما الذي تكشف النقاب عنه بخصوص الجسد وما الذي تسكت عنه؟ وعلى حد تعبير تلكوت بيرسون (Pearson, 1968 [1937]: 17)، ما "التصنيفات البواقي"؛ الحقائق أو الملاحظات التي لا يمكن تفسيرها أو أخذها في الحسبان عبر "التصنيفات المحددة إيجابيا" في مقاربة الجسد؟ مثال ذلك، هل تسمح لنا مقاربة بعينها في الجسد أن نأخذ في الاعتبار أهمية الجسد نسبة إلى الفاعل؟ هل تستطيع أن تفسر أهمية الجسد التاريخية المتغيرة في الأنظمة الاجتماعية؟ هل تعين على تفسير لماذا أصبح الجسد يشغل إلى هذا الحد الكثير من الحداثيين؟ هل تمكنا مقاربة بعينها للجسد من معرفة لماذا تظل النظم الاجتماعية في الغرب كأنها منشغلة بالحفاظ على رؤية في جسد المرأة تختلف وتعد دونية نسبة إلى جسد الرجل؟
        قد ينتقد نهجي هذا من قبل أولئك الذين يفضلون قائمة أنيقة من المعايير المعدة سلفا تقوّم النظريات وفقها. غير أن منقبة هذا النهج إنما تتعين في تسهيل عرض رؤية شاملة وواسعة لمواطن قوة وضعف مقاربات بعينها للجسد في وقت يظل علم اجتماع الجسد غضا نسبيا.
        يتضمن الهدف الثالث من هذا الكتاب محاولة تجاوز وصف وتحليل المقاربات الراهنة للجسد في علم الاجتماع، عبر تطوير مخطط ما أعتبره نهجا أكثر ملاءمة. يركن هذا النهج إلى المكاسب التي لا يستهان بها والتي تحققت عبر تحليل الجسد في علم الاجتماع والأنثروبولجيا الفلسفية، وقد قاربت هذا النهج عبر انتقاء ما أعتبره الأكثر فائدة في المقاربات التي يتم عرض مخططاتها في الفصول الأولى من هذا الكتاب. سوف أوظف وصفي وتقويمي للأعمال الراهنة في علم اجتماع الجسد في تطوير رؤاها شطر توجه جديد، ورغم أنني لا أنوي تطوير نظرية كاملة في الجسد في هذا الكتاب، من المفيد أن أقول شيئا مختصرا عن النهج الذي سوف أعمل على ترويجه.
        سوف أجادل بأن أفضل طريقة لمفهمة الجسد هي أن نعتبره ظاهرة بيولوجية واجتماعية غير مكتملة تتغير، ضمن قيود بعينها، نتيجة ولوجها ومشاركتها في المجتمع. إن هذه النوعية البيولوجية والاجتماعية هي التي تجعل الجسد في آن ظاهرة واضحة وغامضة إلى هذا الحد. من جهة، "كلنا يعرف" أن الجسد يتكون من لحم وعضلات وعظم ودم، وأشياء أخر، ويحتوي على قدرات تختص بالنوع تجعلنا بشرا. من جهة أخرى، حتى أكثر جوانب الجسد "طبيعية" تتغير عبر فترة حياة الفرد. مثال ذلك، حين يتقدم بنا العمر، تتغير وجوهنا، تضعف قدرتنا على الإبصار، تصبح عظامنا هشة، ويشرع لحمنا في الترهل. حجم وشكل وطول الجسد تختلف وفق ما يحصل عليه من رعاية وغذاء، في حين أن انفتاحية الجسد على العلاقات والبيئات الاجتماعية تسهم في غموضه. مثال ذلك أن تنشئتنا تؤثر في أجسادنا عبر عدد لا يحصى من السبل: تطور المرء بوصفه فتاة أو فتى يمشي ويتكلم وينظر ويجادل ويتشاجر ويتبول، إنما يرتهن بأنماط تدريب الجسد التي تعلمها من والديه وآخرين (Haug, 1987). أيضا فإن التدخل الطبي والتقني بوجه عام في الجسد يسلط الضوء على الخصائص البيولوجية والاجتماعية التي يختص بها الجسد، وقد أسهمت في جعل فهم ماهية الجسد مهمة أكثر صعوبة.
        يشير التكوين البيولوجي والاجتماعي للجسد إلى مكوّن آخر في النهج العام في مقاربة الجسد الذي أروج له في هذا الكتاب. في محاولته تنكب عثرات النزعة الاختزالية البيولوجية، دأب علم الاجتماع تقليديا على اعتبار "الطبيعة" و"الثقافة" مجالين منفصلين، تنتمي تحليلاتهما إلى فرعين معرفيين مختلفين. وكما أشار آرثر فرانك (Frank, 1991)، فإن هذا التقسيم يعكس بطريقة بائسة تشعيب الطبيعة/الثقافة الذي يسود أدب الجسد، والذي ينزع إلى افتراض أنه بالمقدور تحليل الجسد وتفسيره دون إشارة إلى خصائصه ونزوعاته "الطبيعية". بيد أن مثنوية الطبيعة/الثقافة تفرقة لا مدعاة لها ولا نفع منها. لقد تطور الجسد البشري عبر آلاف السنين وهو يؤسس أساسا صلبا للعلاقات الاجتماعية. في مقابل البنائية الاجتماعية، من المفيد أن نلحظ أن الجسد ليس مقيدا أو مشحونا بالعلاقات الاجتماعية فحسب، بل يشكل أيضا قاعدة ويحوز قدرات منتجة تسهم في تشكيل هذه العلاقات. قدرات الجنس البشري التي نحصل عليها في الولادة، من قبيل القدرة على المشي المنتصب، والقدرة على الكلام واستخدام الأدوات، تمكننا من تكوين علاقات اجتماعية، وتسهم في تشكيلها. مثال ذلك، تعني جسديتنا أننا لا نستطيع أن نكون في مكانين في الوقت نفسه، كما تفرض قيودا على عدد من نستطيع مقابلتهم والاتصال بهم في أي وقت بعينه (Giddens, 1984). قد يكون بمقدور العلاقات الاجتماعية أن تحدث تغييرات في قدراتنا الجسدية بسبل عديدة، غير أنها تظل تحوز على أساس في الجسد البشري.
        بالترويج لنهج عام في دراسة موضوعة الجسد، أرغب أيضا في اقتراح وجوب أن يقول علم اجتماع الجسد شيئا عن علاقة العقل/الجسد. هذا موضوع يغفله عادة علماء الاجتماع الذين يركزون على الجسد بوصفه لحما ودما، دون تطوير ذلك في شكل رؤية في الجسدية البشرية بوجه عام. وكما سوف يتضح، فإنني أفضل رؤية في العقل والجسد تعتبرهما مرتبطين على نحو لا فكاك منه بسبب موضع العقل ضمن الجسد. على ذلك، لن أتقصى بأي تفصيل الجدل الفلسفي الطويل والمفصل الذي يركز على هذا الموضوع. عوضا عن ذلك، وبالتعويل على أعمال جورج لاكوف، مارك جونسون، وبوب كونيل، سوف أعنى بالمترتبات الاجتماعية الناجمة عن العلاقة الوثيقة القائمة بين هذه المقولات والمخططات التصنيفية التي نتعامل معها من جهة، ووجودنا الجسدي من أخرى. سوف أنجز هذا عبر نقاش صريح للقضايا المعنية في الفصل الخامس، وعبر انشغال ضمني بالنتائج الاجتماعية لموضع العقل ضمن الجسد في الفصول السادس والسابع والثامن.
        في سياق تأسيس مخطط هذا النهج العام في مقاربة موضوعة الجسد، يعد الفصل الخامس فصلا أساسيا، فهو يروم تجاوز ما أعتبره قصورا في مقاربتي النزعة الطبائعية والبنائية الاجتماعية للجسد. سوف أعتبر بشكل موجز دور تطور البشر في حصولنا على قدرات خاصة بالجنس البشري، وأركن بحرية إلى أعمال بوب كونيل وبيتر فرند. لقد طرح هذان الكاتبان تحليلات مهمة "للجسد المجندر" و"الجسد العاطفي". إذا اعتبرنا أعمالهما معا، فإنها تقترح كيف تصبح التقسيمات الاجتماعية متجسدة في النساء والرجال. في الفصلين السادس والسابع سوف أطرح حجة أكثر إثارة للخلاف مفادها أنه يمكن توظيف أعمال بيير بورديو ونوبرت الياس في التغلب على مثنويات البيولوجيا/المجتمع، العقل/الجسد، والثقافة/الطبيعة البارزة في مقاربات النزعتين الطبائعية والبنائية للجسد. فضلا عن ذلك، عوضا عن الاقتصار على عرض مقاربات منهجية للجسد، يمكن تأويل تحليل تلك الأعمال على اعتبار أنها تطرح نظريات فعلية في الجسد في المجتمع.
سبق أن تم تأويل أعمال بورديو والياس بطرق عديدة، غير أنه لا يظن عادة أنها تطرح نظريات في الجسد، رغم أن علماء اجتماع الجسد قاموا بتوظيفها. على ذلك، يتعين هدفي الرابع من هذا الكتاب في عرض اقتراح مفصل مفاده أن لب أعمالهما إنما يتحدد في رؤى محددة في الجسد تحمل محمل الجد المترتبات الاجتماعية الناجمة عن الجسدية البشرية بوصفها ظاهرة ماديةلقد سبق أن اقترحت أن علم الاجتماع التقليدي تبنى مقاربة مزدوجة في دراسة الجسد، ولا ريب أن هذه المقاربة تظل تهيمن إلى حد كبير على علم الاجتماع  المعاصر. غير أن هناك استثناءات، وأقترح أنه  بالإمكان اعتبار أعمال بورديو نظرية في الجسد كرأس مال مادي، في حين تعنى أعمال الياس أساسا بالتفصيل فيما أسميته بنظرية الجسد المتحضر. إن كل من هذين الكاتبين يطرح لعلماء الاجتماع مقاربات فعالة متقابلة للجسد تعين على تجاوز المقاربة المزدوجة التي تبناها علم الاجتماع التقليدي في دراسته لموضوعة الجسد. أيضا فإن لديهما الكثير لقوله بخصوص موضع الجسد في المجتمع وتأثيره على إحساس الناس بهوياتهم.
  اأاا   يشير مفهوم بورديو للجسد بوصفه نوعا من رأس المال المادي إلى شيوع عملية تسليع الجسد؛ وهو موقف يربط هويات البشر بالقيم الاجتماعية التي يحصلون عليها بسبب حجم وشكل ومظهر أجسادهم. في المقابل، يبين الياس كيف أصبح الجسد بشكل متصاعد فردانيا يعزل المرء عن أغياره. إنه يجمع بين هذا وتحليله لكيف أن كثيرا من الصراعات التي كانت تحدث بين الأجساد أصبحت تحدث الآن داخل الفرد الجسدي بسبب متطلبات التحكم في العواطف. إن هذه العمليات تجعلنا نعيش وحيدين مع أجسادنا؛ بحيث نبذل المزيد من الجهود في مراقبتها، وترويض أمرها والعناية بمظهرها، مع فقد الرضا الذي كنا نتمتع به بسبب الانغماس في الملذات وإشباع حاجات الجسد. إن لدى الياس أكثر مما لدى بورديو بخصوص "الجسد المعاش"، وكيفية اختبار أنفسنا وبيئتنا عبر أجسادنا. على ذلك، يمكن إقرار أن أعمال هذين المنظرين تقر الكثير عن النزوع الحداثي لدينا شطر درجة عالية من التأمل في أجسادنا، وعن السبب الذي يجعل الموت في هذا السياق شيئا مزعجا للفرد الحداثي.
        يحيلني هذا إلى الهدف الخامس والأخير من هذا الكتاب: الترويج لتحليل الموت بحسبان أهمية المركزية في علم اجتماع الجسد. خلافا لدراسات أخرى أجريت على موضوعة الجسد، أقترح أننا لا نستطيع فهم الظروف المرتبطة بالحياة كأشخاص جسديين في عصر الحداثة العالية فهما تاما إلا باعتبار إمكان الموت.
وضع مخطط الجسد
رغم أنني لم أنظم هذا الكتاب في شكل أبواب، فإن محتواه ينقسم بوجه عام إلى أربعة مجالات متعلقة بشكل واسع. أولا، يطرح الفصل الثاني رؤية شاملة لوضع وصورة الجسد في علم الاجتماع. ثانيا، يتقصى الفصلان الثالث والرابع مقاربات منهجية منفصلة لتحليل الجسد في المجتمع. ثالثا، في حين تواصل الفصول السادس والسابع والثامن والتاسع المقارنة بين مقاربات مختلفة للجسد، فإنها تحاول تفسير لماذا أصبح الجسد مشروعا عند كثير من الناس في الفترة الراهنة من الحداثة العالية، وتحلل حدود هذا التوجه شطر الذوات المادية. رابعا، يحلل "الملحق" مصير مشاريع الجسد في سياق ابتكارات تقنية أنجزت مؤخرا، كما يحلل مفاهيم بديلة للجسد والهوية الذاتية، ويروم إحداث المزيد من التطوير على النهج الواسع الذي يتبناه هذا الكتاب. يتضمن هذا إعادة تقويم بعض النظريات الأساسية التي سبق فحصها في الأجزاء الرئيسة من الكتاب، وتحديد ما أعتبره توجها جديدا مهما في عملية التنظير للجسد.
        يطرح الفصل الثاني تقصيا مفصلا للمنزلة المزدوجة التي يتنزلها الجسد في علم الاجتماع وظهور الجسد بوصفه موضوعا للدراسة. بعد فحص حضور الجسد الغائب في علم الاجتماع المعاصر والكلاسيكي، أبحث عن بعض الأسباب التي تفسر رواج الجسد المتصاعد في علم الاجتماع. يتضمن هذا ظهور نسوية "الموجة الثانية"؛ تقدم السن بسكان الغرب؛ التحول الذي طرأ على بنية الأنظمة الاجتماعية الرأسمالية المتقدمة؛ المشكلة آنفة الذكر المتعلقة بمعرفتنا بماهية الجسد، والمرتبطة بعقلنة الجسد في عهد الحداثة. تنعكس هذه "الأزمة" في أعمال بعد_حداثية متأخرة في الجسد تخلت، رغم تركيزها المثمر على الاختلاف، عن محاولة فهم الجسد بوصفها ظاهرة مادية. أيضا فإنها تنعكس في تمثيلات الجسد في الثقافة الشعبية.
        في الفصلين الثالث والرابع أفحص موروثين من أهم موروثات التفكير التي عنيت بها الدراسات المعاصرة في الجسد، وركنت إليها واستجابت ضدها. يركز الفصل الثالث على الرؤى الطبائعية في الجسد. المقاربة الطبائعية مظلة ينضوي تحتها نطاق واسع من الرؤى التي تمفهم الجسد بوصفه قاعدة بيولوجية تتأسس عليها بنى المجتمع الفوقية. المجتمع إنما ينبثق من الجسد وهو مقيد بالجسد، الذي يتشكل بدوره بواقعيات الطبيعة الثابتة. وفي حين أن الرؤى الطبائعية ترتبط غالبا بعلم الاجتماع، فإن لها تاريخا طويلا ومتنوعا، وقد أثرت، سلبا في أغلب الأحيان، في مفهوم علماء الاجتماع المعاصرين للجسد. تظل تلك الرؤى تحدث أثرها العميق في التمكين من حدوث إجحاف اجتماعي، غير أنه تم تبنيها من قبل جماعات مضطهدة لتبرير اعتبار جسديتها منقبة.
        على ذلك، استجابت معظم الأعمال السوسيولوجية المتأخرة بطريقة سلبية ضد الرؤى الطبائعية وركنت عوضا عنها إلى ما يبدو طائفة مختلفة جذريا من الأعمال. في الفصل الرابع أتقصى مجموعة منتقاة من رؤى البنائية الاجتماعية في الجسد. تدرك هذه الرؤى معنى وأهمية وحتى وجود الجسد بوصفه ظاهرة اجتماعية. وعوضا عن أن يكون الجسد قاعدة المجتمع الطبيعية، فإنه يعد نتاج القوى والعلاقات الاجتماعية.
        أثرت أربعة مصادر في رؤى النزعة البنائية الاجتماعية في الجسد: أنثروبولوجيا ماري دوجلاس؛ أعمال علماء التاريخ الاجتماعي في الجسد؛ تحليلات ميشيل فوكو؛ ودراسات ارفنج جوفمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق